طفولة قلب

تظل ذكريات الطفولة في داخل كل إنسان…. يتذكرها…. يرسم تفاصيلها….. يسعد لها…. يرويها لأحبابه….

 

حينها كم يتمنى الإنسان أن يستعيد لتلك الأيام…ليعود طفلا صغيراً..وتعود له براءته ….وشقاوته…وطهارة قلبه…وقبل ذلك وبعده…صفاء حياته…كيف لا…وهو يعود طفلاً لا يحمل هم الغد…تسعده لعبه…وترسم ابتسامته قطعة حلوى…ينام متى شاء….ويستيقظ ليعاود اللعب متى شاء.

يعقد صداقاته في لحظة…وينسى خلافاته في لحظة..و.بمقدوره أن يضحك من أعمق قلبه…ودمعاته لما تجف على خده بعد…

ينظر للعالم من حوله بغاية البساطة…ويظن أن الجميع سيستيقظون غداً  وهم سعداء مثله…لأنهم يتذكرون أين خبئوا لعبتهم البارحة…

الطفولة يا معشر البشر…هي عقل وقلب……

عقل صغير لم يجرب الحياة…لذا فهو لا يرى الأشياء على حقيقتها…كما يراها الكبار…لا يعرف متطلبات الحياة ومسؤوليتها…لم يجرب كدحها وتعبها…لا يرى سوى اللحظة الحالية…لم يجرب الظلم والقهر…لم يعرف طعم العبودية والمذلة…

يظن أن السعادة….كل السعادة…في هدية جديدة…تأتيه بمناسبة يوم عيد… ولا يسأل متى صنعت..أي مصنع صنعت ….ومن أي مادة صنعت…وكم كانت أجرة العامل في ذلك الصنع…وهل كانت له حقوق ورعاية صحية…وهل كان سيحظى بمعاش تقاعدي…ثم كيف كانت وسيلة شحنها…وما هو المحل الذي عرضها…ومن هو العامل الذي باعها…وهل كان هو المعيل الوحيد لأسرته الكبيرة….وهل كان ما يتقاضه كأجر يسد حاجته وحاجة من يعولهم…ولم يسأل نفسه كم كلفت هذه اللعبة…وكم ساعة عمل من والديه تعادل هذه الهدية… أسئلة كثيرة عن رحلة هذه الهدية …لا تعنى هذا الطفل…كل ما يعنيه كم سيستغرق من الوقت لفتحها…ومعرفة ماذا تحتوي… تلك هي عقلية الطفل…لا ترى سوى الصور النهائية…ولا تعلم أن خلف تلك الصور العديد من الأسئلة والعديد من الأجوبة…التي لم ولن يفهمها عقله الصغير. عقلية سيكتشف هو لاحقا كم كانت ساذجة…ولذلك يطر الطفل إلى تغير طريقة تفكيره…وآلية اتخاذ القرار مع الأيام…ليستحق أن يكون شخصاً كامل العضوية في عالم الكبار.

 

ذلك هو الجزء الأول من مكونات ذلك الطفل…أما الجزء الثاني فهو قلبه… هذا القلب الكبير الذي لا يعرف الحقد أو الكراهية…لا يعرف البغض والازدراء…لا يعرف سوى الحب والصفاء… ذلك القلب الذي فطرته أن ينشأ كبيرا ليحوي حب العالم كله…لا يفرق بين أبيض أو أسود…أو غني وفقير…لا يعرف تلك الحواجز التي صنعنها نحن الكبار…ذلك القلب الذي سرعان ما يتناسى أخطاء الآخرين عليه…ويعود بعد ثواني يلعب معهم…ويشاركهم ممتلكاته …أقصد ألعابه…

ذلك القلب الذي يبكي ويضحك…يحزن ويفرح…لكنه لا يضمر غير الخير…والحب لكل أحد… قلب الطفل هو بصفاء الثلج…ونور الشمس….وطهارة حبات المطر….ونقاء البلور… إنه قلب لم تغيره الأيام بعد…فهو يعرف الله بالفطرة…ويعلم أنه سبب كل الخير الذي يأتيه…لذا ما أن تأتيه مشكلة حتى تراه يدعو ربه… بلا وسيط أو شفيع…يدعوه ليرد عليه لعبته التي أضاعها…يدعوه لشفاء أبيه أو أمه من مرضه العضال الذي أصابه…يدعوه أحياناً لأن يأتي العيد مبكرا فقد مل انتظاره…أو ليكون خروف الأضحية لهذا العام كبيرا…يدعوه ويدعوه…وهو يملك قلبا ممتلئ بيقين الإجابة. إنه ذلك القلب الذي يحب والديه بحق…ويحب إخوانه وأخواته وأقرانه وكل من حوله…يحبهم حبا يجعله مستعد لتقديم أغلى ما لديه من أجلهم…فتراه يقدم لعبته الجديدة لأمه لعلها تشفى من مرضه العضال…أملا منه أن يكون تخليه عن أغلى ما يملك هو الوسيلة الوحيدة لإسعاد من يحبهم…لا يهم ثمن اللعبة…المهم أنه مستعد لتقديم أغلى ما عنده للآخرين لإسعادهم.

 

ذلك القلب وللأسف…نظر مع الأيام أن نتخلى عنه ظنا منا أن التخلي عنه هو أيضا شرط لعضوية عالم الكبار…

فنستبدله بقلب… لا ينسى أخطاء الآخرين…لا يغفر حتى لمن يحب…بل لا يحب أصلا إلا لمنفعة…صداقتنا تصبح صعبة …وفقد أصدقائنا وأحبابنا يغدو سهلا…نخطئ بحق أقرب الناس لنا…نستبدل ألعابنا وعرائسنا الصغيرة…بأشخاص حقيقتين….فنتلاعب بعواطفهم ومشاعرهم ومصائرهم للحصول على ما نريد…تغدوا لنا الحياة معركة…لا يهمنا فيها سوى عدد من نهزهم ونسحقهم…يقودنا غرورنا لأن نسعى لفشل الآخرين…أيماننا منا أن أقل النجاح…..هو منع الآخرين من الوصول إليه.

تلك هي وللأسف الشديد القلوب التي يطلبها عالم الكبار…

 

اليوم وأنا أكد أكمل ربيعي الخامس والعشرين…وأتم مسيرة ربع قرن في هذا العالم…دائما ما أسال نفسي ماذا تبقى لدي من مرحلة الطفولة…

للأسف لم يتبقى لدي سوى بعض الصور…وبقايا حكايات…وأطياف لأشخاص أحببتهم غادروا هذه العالم… وشيء صغير …صغير جدا …لا أظنكم تحفلون لذكره…لكنه بالنسبة لي هو أعز ما تبقى…من تلك المرحلة من عمري…. وكم كافحت وعانيت لأظل محتفظا به…

 

أتدرون ما هو…..إنه قلب طفل